الله ســــر الأســــــرار
د.جوزيف سعد حليم
لا أحد يستطيع أن يُنكر دور العقل في حياتنا ، فالعقل له أهمية كبرى
في حياة كل منا ، وذلك مرجعه أن العقل هو " ما يكون به التفكير والاستدلال ،
وتركيب التصورات والتصديقات ، ويتميز به الحسن من القبيح والحق من الباطل ، والخير
من الشر " .
وكلمة العقل لغوياً تأتي من " عقل الشيء " أي أدركه على
حقيقته .
ونحن نستخدم العقل في كثير من المجالات ، بل في كل مجالات الحياة ،
فهل من الممكن استخدامه في الأمور والحقائق الإيمانية ؟؟ أم أن في استخدامه في
أمور العقيدة خطر علينا ؟؟ وهل هناك حدود لاستخدام العقل في الحقائق الإلهية في
إيماننا المسيحي ؟؟
أولاً : دور العقل في البحث اللاهوتي :
من المعروف أن الإنسان كائن عاقل ، بل هو الكائن الوحيد المفكر ، حتى وإن أطلقنا على الكمبيوتر العقل الإلكتروني
فهو لا يستطيع التفكير بل إنه يُنفذ ما يتلقاه من أوامر المستخدم دون تفكير منه .
والإنسان قد وُهب نعمة العقل لكي يستطيع إدراك ما حوله والتفكير فيه وإخضاع كل ما
على الأرض لخدمة وصالح الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله ، فعندما رجع عقل
نبوخذنصر إليه بارك الله ( دا 4 : 34 ) لكن عقله رجع إليه حينما رفع عينيه نحو
السماء أي نحو الله الذي وهبه هذا العقل ، ويدعونا الرب في المزمور للتعقل قائلاً
" مَنْ كَانَ حَكِيماً يَحْفَظُ هَذَا وَيَتَعَقَّلُ مَرَاحِمَ الرَّبِّ"
( مز 107 : 43 ) ويؤكد لنا السيد المسيح أهمية العقل من خلال مثل الرجل الذي بنى
بيته على الصخر واصفاً إياه " بالرجل العاقل " لأنه يسمع ويعمل بأقوال
الله ( مت 7 : 24 ) والله يبحث عن العقل الذي يفهم ويطلب الله ( مز 14 : 2 )
إذن لا مانع من استخدام العقل في الأمور الإيمانية ، بل إن هذا واجب
ضروري وحتمي لأننا بالعقل لابد وأن نُدرك أن الخليقة تحتاج إلى خالق أوجدها ،
ومُكون كونها ، ومُنظم نظم حركة الكون كله ووضع له القوانين التي تحكم وجوده ، ومن
يُنكر وجود هذا الخالق يصير بلا عقل ويكون بلا عذر " لأَنَّ أُمُورُهُ غَيْرُ
الْمَنْظُورَةِ تُرَى مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ قُدْرَتُهُ
السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ" ( رو 1 : 20 )
فالعقل يزيد الإيمان نوراً والإيمان يُنير العقل المظلم ويمسكه عن الجنوح إلى
الشطط والبعد عن الله فإن كان قد قال أحد الفلاسفة أن " الإنسان كائن عارف
" فهو بالتأكيد يجب أن يكون كذلك ، لكنه مُلزم أن تكون معرفته بناءً على
إدراك مستنير قائم على وعي حقيقي وشجاعة في إعمال عقله وطرح الأسئلة الصعبة ، ومن
ثم إيجاد إجابات شافية يقينية تجعله يُدرك ما يدور حوله وما يدور بداخله بأمانة
وتدقيق وينبغي " أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ
بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ" ( رو 12 : 3 )
إن الحقائق الإيمانية تُستقبل أولاً في العقل ، وهنا تُثار الأسئلة في
داخل الإنسان متى ابتدأ يُفكر في نفسه وفيما حوله ، فنجد طفلاً يسأل : كيف جئت إلى
العالم ؟؟ ومن أوجدني ؟؟ ومن أوجد هذا الكون الفسيح ؟؟ وعندما نقول له : الله . لا
يتوقف عقله عند هذا الحد ، بل نجده يُبادرنا بوابل من الأسئلة التي يراها البعض
صعبة في الإجابة فينتهروا الطفل وينهونه عن طرح مثل هذه الأسئلة التي يطرحها مثل :
ومن أوجد الله ؟؟ وأين يسكن ؟؟ وكيف كان يحيا قبل أن يوجد الخليقة ؟؟ ... ؟؟؟
وهكذا ؟؟؟؟؟؟!!!!!!
لابد وأن نُدرك أننا نستقبل الإعلان الإلهي الطبيعي عن وجود الله ،
وبعض الحقائق المُعلنة لنا من خلال البيئة والأسرة ، كذلك الحقائق الخاصة بهذا
الوجود في عقولنا أولاً ، ثم يأتي دور الإيمان الداخلي الذي يُبلور هذه الصورة
التي تكونت في العقل ويُدمجها مع باقي الحقائق الخاصة بالله ، فتتكون لدى كل واحد
منا صورة شخصية عن طبيعة الله الذي يعبده ، أو تتشوه هذه الصورة بفعل نماذج سيئة
أو بفعل خطايا محبوبة أو بفعل العقل المشوش من جراء استقبال معلومات خاطئة أو تدخل
شيطاني ، وهنا يجب طرح سؤال هام جداً : هل نتوقف عن التفكير ؟؟؟ أو نتوقف عن
استخدام العقل ؟؟ أم نطرح الأسئلة ونجد الإجابات لها مستعينين و مسترشدين بالإعلان
الإلهي في كلمة الله الكتاب المقدس ؟؟ فكما قال القديس أوغسطينوس " اللهم قد
خلقتنا لذاتك ولن تجد نفوسنا راحة إلا إذا استراحت فيك "
هناك حقيقة هامة هي أن التفاعل بين العقل والإيمان قديماً هو الذي نتج
عنه ظهور علم اللاهوت الذي يختص بالبحث عما أعلنه الله عن ذاته وصفاته وشرائعه
وأعمال عنايته والتعاليم التي يجب أن نعتقدها ، والأعمال التي يجب أن نقوم بها وقد
سُمي علماً لا معرفة لأن العلم إدراك الكليات ، أما المعرفة فهي إدراك المفردات
والقضايا البسيطة ، وأما مصدر تلك العقائد الدينية وما بينها من الترابط والتداخل
والعلاقات المترتبة بعضها على بعض ، فنجدها متفرقة في الكتاب المقدس وأقوال الآباء
والمجامع المسكونية ، واللاهوتي يقوم بجمعها وتنسيقها وبيان ما بينها من علاقة
ترابط واتفاق مما استلزم ويستلزم إعمال العقل بنور وإرشاد الروح القدس ، فالإعلان الإلهي الطبيعي في الكون هو ما يظهر
لعقولنا ليؤكد حقيقة وجود الله ، ويمهد لها الطريق لاستقبال الإعلان الإلهي فوق
الطبيعي ، وعليه فإن الإيمان بدون تعقل يصير عقيماً ، كما أن العقل بدون إيمان
يصير مُظلماً وعقيماً أيضاً ، إذ أن التفاعل الجيد بين العقل والإيمان ( إن كان
بطريقة صحيحة ) يصير مُثمراً جداً لمجد الله إذ أنه يجعلنا نتعمق إيماننا جيداً .
ثانياً : هل يستطيع البشر استيعاب كل الحقائق عن الله ؟
في البداية نقول إننا لا نستطيع أن ندرك كل الحقائق عن الله بعقولنا
إدراكاً كاملاً ، وإلا ما كان هناك داع إلى الوحي الإلهي ! بل إن عجز عقولنا عن
إدراك كل الحقائق عن الله واستيعابها هو الدافع الرئيسي لإعلان الله عن ذاته
بواسطة الوحي الإلهي المقدس ، إذ أننا بعقولنا لا نستطيع أن ندرك مدى محبة الله
لنا ، ولا أن ندرك ذاته ولا أعمال عنايته بنا ولا صفاته إدراكاً وافياً كافياً
شافياً ، ولا حتى نستطيع تفسير معنى الوجود تفسيراً صحيحاً إلا من خلال إعلان فوق
طبيعي استلزم الله أن يعلنه لنا بنفسه بواسطة أناس الله القديسون مسوقين ومنقادين
بروح الله لُيعلنوا لنا عن حبه لنا بدافع من حبه وليعلمونا أن نحبه ، ثم بكمال
إعلانه عن ذاته لنا في المحبوب ربنا يسوع المسيح عن طريق سر التجسد الإلهي " اَللهُ،
بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ
كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي
جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ"
( عب 1 : 1 ، 2 )
فإن كان العقل هو هبة القدير ، فإعلان الله عن ذاته لنا هو أيضاً هبة
إلهية ليست ضد العقل وإن كانت تسمو عليه وتفوق قدراته وإمكانياته فكما قال أحد
الفلاسفة في مناجاة لله " يارب إن العقل يعلم أنه يجهلك ، لأنه يعرف أنك لا
تُدرك إلا إذا أُدرك ما لا يمكن إدراكه ورؤي ما لا يمكن رؤيته ، وتُوصِلَ إلى ما
لا يمكن الوصول إليه ، فالله سر الأسرار " لكن وعلى الرغم من هذا فالعقل هو
القوة التي إذا استطعنا أن نخضعها لنور الإيمان تصير لنا به قوة محبة لله تسمو به
على كل قبح وشر يحاول تدنيس هيكلنا المقدس ، بل وبه نغلب كل فكر شيطاني لا يُرضي
صلاح الله كما أوصانا الرب يسوع قائلاً " «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ
كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ " ( مت 22 : 37
، مر 12 :30 ) مستبدلاً كلمة " قوتك " الواردة في ( تث 6 : 5 ) بكلمة
" فكرك " أي أن الفكر الناتج عن العقل هو القوة الموهوبة للإنسان من
الله ليحب بها الله ويكون في علاقة حب حقيقية معه .
لكن وكما سبق القول ينبغي على الإنسان " أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا
يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ" ( رو 12 : 3
) لهذا قد يقف الإنسان حائراً مذهولاً أمام الإعلان الإلهي عن سر الله ، وكأنه
أمام محيط واسع بلا شواطئ أو حدود ، وذلك لأن الله هو الذي أوجد كل الموجودات بما
فيها العقل ، بل هو سر وجود الإنسان ذاته ، فالله هو سر الأسرار .
ثالثاً : تعريف كلمة " سر "
إن كلمة سر بالمعنى اللاهوتي تختلف عن السر بالمعنى الطقسي الكنسي ،
فكما قال القديس أوغسطينوس " السر هو ما لا ينتهي الإنسان من فهمه "
فكلما غمر فيه الإنسان اكتشف أبعاداً وأعماقاً ومعاني لا حد لها ، لذا فليس
الإنسان هو الذي يملك الحق أو يمتلك الحقيقة ، بل إن الحق هو الذي يملك الإنسان
والحقيقة تمتلكه بالكامل ، وما الحق المطلق أو الحقيقة المُطلقة سوى الله ذاته ،
فالله هو الذي يملك الإنسان بكامله ، وهو الذي ينبغي على الإنسان أن يجعله يمتلكه
بالتمام بإرادته الحرة الواعية ، وبمحبته المطيعة الخاضعة .
فليس الإنسان هو مفتاح سر الله ، وهو لا يملك سر الله ، بل الله هو سر
وجود الإنسان ، وهو سر معرفة الإنسان لله ، و لكينونته الذاتية إن فتح الإنسان
عقله لاستقبال نور الإيمان المُعلن في كلمة الله .
فإن كانت كلمة سر تحمل في طياتها معنى ما هو مخفي ، فالله وإن كان
خافياً عن العقول ، فهو مخفي عن العقول التي ترفضه لكنه مُعلنٌ كسر مكشوف لمن يقبل
إعلانه بإيمان "عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ"
(1تي 3 : 16 )
أما السر بالمعنى الطقسي الكنسي فهو " نعمة غير منظورة تُعطى
بواسطة مادة منظورة " كما عرفها الآباء القديسين .
رابعاً : تعريف كلمة " الله " :
إن حقيقة الإيمان بالله تجلت تدريجياً للإنسان منذ بدء الخليقة بالوحي
الإلهي ، لكنها اكتملت بصورة نهائية بتجسد الله الكلمة الذي أعلن وكشف لنا عن محبة
الله وسر الله لمحبي اسمه القدوس . أما عن الاسم ( الله ) فهو تسمية سامية خاصة
بالله وحده بحالة مطلقة بدون أن يشاركه فيها أحد ، ولا يجوز ولا ينبغي أن يتسمى
بها غيره له كل الكرامة والمجد ، وهو اسم نلتقي به في بداية سفر التكوين " فِي
الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" ( تك 1 : 1 ) فهو الله قبل
كل الخليقة ، لذا فقد خاطبه موسى النبي في صلاته قائلاً " مِنْ قَبْلِ أَنْ
تُولَدَ الْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ الأَرْضَ وَالْمَسْكُونَةَ مُنْذُ الأَزَلِ
إِلَى الأَبَدِ أَنْتَ اللهُ" ( مز 90 : 2 )
ولفظة " الله " في اللغة العربية مشتقة من الفعل " أله
" وقد دخلها لام التعريف فصارت ( الإله ) و حُذفت الألف الوسطى منها لكثرة
الاستعمال فصارت " الله " وهذا الفعل " أله " يعني " عبد
" وبعضهم يقول " سكن " وبناء عليه يكون معنى لفظة " الله
" لديهم ( المعبود ) أو ( الذي تسكن إليه القلوب )
وهذا الاسم " الله " هو ترجمة لفظة ( إيلوهيم ) العبرية وقد
وردت في العهد القديم 2500 مرة وهي بصيغة الجمع ومفردها ( ألوه ) حتى في اللغة
السريانية تنطق هكذا التي تترجم ( إله ) ومعناها في العبري ( الذي ارتبط بقسم أو
عهد ) ويشتق منها الاسم العبري ( إيل ) وفعله ( أول ) وهو يدل على الأسبقية في
الزمان والقدرة أو القوة اللانهائية فتفيد لفظة ( إيلوهيم ) إذاً معنى ( السابق
القوي الأمين ) وهي تناسب جداً افتتاحية سفر التكوين لأنها تدل على طبيعة الخالق
وسلطانه الفائق الوصف الذي لا يعبر عنه .
ويرى البعض أن لفظة ( اللهم ) العربية التي نستخدمها هي بعينها (
إيلوهيم ) العبرية ، ولله الذي خلقنا وأحبنا كل كرامة ومجد من الآن وإلى الأبد
آمين
وللحديث بقية ... ... ...
رائع جدا
ردحذف